"الإبادة المعرفية".. غضب أكاديمي بعد إلغاء عدد عن فلسطين في مجلة هارفارد
"الإبادة المعرفية".. غضب أكاديمي بعد إلغاء عدد عن فلسطين في مجلة هارفارد
شهدت الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة جدلاً واسعًا بعد الإلغاء المفاجئ لعدد خاص من مجلة هارفارد التعليمية كان مخصصًا لفلسطين والتعليم، وهو قرار أثار موجة من الانتقادات والاتهامات بالرقابة، واعتبره باحثون مثالًا صارخًا على ما يُعرف بـ"استثناء فلسطين" من مبدأ الحرية الأكاديمية.
وبحسب ما كشفته صحيفة "الغارديان"، اليوم الخميس، فقد أدان أكثر من 115 باحثًا في مجال التربية، في رسالة مفتوحة، إلغاء العدد الذي كان من المقرر أن يتناول قضايا تعليم الفلسطينيين والتعليم المتعلق بفلسطين في الولايات المتحدة، واعتبروا أن ما حدث "محاولة لإسكات البحث الأكاديمي في الإبادة الجماعية والتجويع وإهانة الشعب الفلسطيني على يد دولة إسرائيل وحلفائها".
وأشار الموقعون على الرسالة إلى أن هذه الرقابة تمثل أيضًا "تمييزًا ضد الفلسطينيين" وتعرقل نشر المعرفة عن فلسطين "في ذروة الإبادة الجماعية في غزة".
إلغاء في اللحظة الأخيرة
وكان العدد الملغى مخططًا لإصداره بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب على غزة، بهدف تقديم أبحاث وتحليلات حول وضع التعليم في فلسطين، وخاصة في ظل تدمير البنية التحتية التعليمية في القطاع، بما في ذلك إغلاق مئات المدارس وتدمير جميع الجامعات.
وكان محررو المجلة قد أوضحوا في دعوتهم لتقديم ملخصات الأبحاث أن "مجال التعليم له دور مهم في دعم الطلاب والمعلمين وصانعي السياسات في وضع ما يحدث في غزة في سياقه".
لكن بعد أكثر من عام من العمل على هذا المشروع، ومع اكتمال تحرير المقالات وتوقيع عقود النشر والإعلان عن العدد في المؤتمرات الأكاديمية، طلبت مجموعة هارفارد للنشر التعليمي، وهي الجهة التي تصدر المجلة وتتبع كلية الدراسات العليا للتربية بجامعة هارفارد، إخضاع جميع المقالات لمراجعة قانونية غير مسبوقة من مكتب المستشار العام للجامعة، تحت مسمى "تقييم المخاطر".
وبحسب الرسالة التي حصلت عليها الغارديان، فإن اعتراض المؤلفين على هذا الإجراء دفع الناشر إلى إلغاء العدد نهائيًا، وقد بررت المديرة التنفيذية للمجموعة، جيسيكا فيوريلو، القرار بوجود "عملية مراجعة غير كافية" وحاجة إلى "تحرير نسخي مكثف" و"غياب التوافق الداخلي" حول العدد، مؤكدة أن الإلغاء "لا علاقة له بمسائل الحرية الأكاديمية".
لكن المؤلفين والمحررين رفضوا هذا التبرير بشكل قاطع، واعتبروا القرار "سابقة خطيرة"، ومثالًا على ما وصفوه بـ"استثناء فلسطين" من حرية البحث والنقاش الأكاديمي.
ضغوط سياسية وسياق أوسع
أوضحت صحيفة "ذا هارفارد كريمسون"، وهي صحيفة طلابية داخلية، أن هذا الإلغاء جاء في وقت تتعرض فيه جامعة هارفارد لضغوط شديدة من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي اتهمت الجامعات، بما فيها هارفارد، بالسماح بانتشار "معاداة السامية" في الحرم الجامعي بسبب النشاط المؤيد لفلسطين.
وذكرت الصحيفة أن الجامعة واجهت إجراءات عقابية من إدارة ترامب، بما في ذلك تهديدات بخفض التمويل الفيدرالي، وعلى الرغم من أن هارفارد رفعت دعوى قضائية ضد الإدارة، فإنها نفذت داخليًا سلسلة من التغييرات التي حدت من المساحات الأكاديمية المخصصة لفلسطين، مثل إلغاء برامج ومبادرات بحثية وطرد مسؤولين أكاديميين.
وفي محادثات مع محرري مجلة هارفارد التعليمية، أقر الناشر، بحسب الغارديان، بأن مراجعة المقالات قانونيًا جاءت خشية أن يؤدي نشرها إلى مزاعم بمعاداة السامية.
وقالت الباحثة الفلسطينية الأمريكية ثيا أبو الحاج، إحدى المساهمات في العدد الملغى: "إذا كانت الجامعات أو المطبوعات الأكاديمية غير مستعدة للدفاع عن جوهر رسالتها، فلا أعرف ما الهدف مما تقوم به".
ردود فعل حقوقية وأكاديمية
أدان عشرات الباحثين القرار في رسالتهم المفتوحة، معتبرين أنه يرقى إلى "إبادة معرفية" أو "إبادة أكاديمية"، وهو مصطلح صاغه باحثون فلسطينيون لوصف التدمير المتعمد للنظام التعليمي الفلسطيني.
ومن جانبها، وصفت منظمة "بن أمريكا" المعنية بحرية التعبير، وفق ما نقلته الغارديان، إلغاء العدد الخاص بأنه "اعتداء صارخ على الحرية الأكاديمية"، وحذرت من أن إسكات هذه الأصوات الأكاديمية يرسل "رسالة مُرعبة" في سياق الضغط السياسي المتزايد على الجامعات الأمريكية، خاصة في ما يتعلق بالبحث حول فلسطين.
وقالت مديرة برنامج مبادرة حرية التعبير في الحرم الجامعي بالمنظمة، كريستين شاهفرديان: "إلغاء عدد كامل قبل موعد النشر بفترة وجيزة أمر غير مألوف ونادر من نوعه.. هذا يحرم الأكاديميين والطلاب والجمهور من فرصة التفاعل مع هذه الآراء".
خطوات تمهيدية للإلغاء
بحسب "ذا هارفارد كريمسون"، فقد بدأ العمل على العدد في مارس 2024، بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب في غزة، وقد أنجزت عمليات التحرير الأولية والثانوية في يناير وفبراير 2025، ونُشر الإعلان عن العدد على غلاف المجلة وفي مؤتمرات أكاديمية.
لكن مع بداية عام 2025، بدأت تظهر بوادر التراجع، إذ أبلغ الناشر المحررين بوجود "مراجعة مؤسسية"، وحاول إزالة مقال من الغلاف الخلفي يركز على "القتل المدرسي" في غزة، قبل أن يعيده تحت ضغط المحررين.
وفي مايو، طُلب إجراء "تقييم للمخاطر" من المستشار القانوني، وهو ما وصفه المؤلفون بأنه خطوة استثنائية في توقيتها، نظرًا لقرب موعد النشر، وفي 15 مايو، بعث 21 كاتبًا برسالة إلى إدارة المجلة والناشر يدينون فيها هذا الإجراء، ويؤكدون أن "الحرية الأكاديمية لا يجب أن تكون مشروطة بالمصلحة السياسية".
تأثير على البحث الأكاديمي
لم تقتصر القضية على مجلة هارفارد التعليمية، إذ ذكرت "ذا هارفارد كريمسون" أن طالب الحقوق الفلسطيني ربيع إغبارية واجه معارضة لنشر ملحق قانوني حول فلسطين، بعد أن طلب إضافة بند يحمي حريته الأكاديمية في العقد، وهو ما رفضه الناشر.
حذر إغبارية من أن الجدل الدائر حول حرية البحث في القضايا الفلسطينية يُستخدم لصرف الأنظار عن "الإبادة الجماعية والتجويع" بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
كما أصدرت هيئة تحرير مجلة هارفارد للقانون بيانًا أعربت فيه عن "خيبة أمل عميقة" إزاء الإلغاء، معتبرة أن القرار "تحذير في جميع مجالات البحث النقدي" وليس فقط في الأبحاث المتعلقة بفلسطين.
من خلال ما وثقته الغارديان وذا هارفارد كريمسون، يتضح أن القضية تتجاوز مجرد إلغاء عدد أكاديمي، إذ تعكس سياقًا أوسع من الضغوط السياسية والمؤسسية على حرية البحث، خاصة حين يتعلق الأمر بفلسطين.
ويرى الموقعون على الرسائل الاحتجاجية أن هذه الممارسات تمثل انتهاكًا واضحًا للحق في التعليم وحرية البحث الأكاديمي، وهما حقان أساسيان نصت عليهما المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
كما أن توقيت الإلغاء، في ظل ما وصفته الرسالة المفتوحة بـ"الإبادة الجماعية في غزة"، يزيد من خطورة القرار، باعتباره جزءًا من نمط أوسع من "الإقصاء المعرفي" للفلسطينيين وقضاياهم في المؤسسات الأكاديمية العالمية.